
يتناول وسائل الإعلام العربي و الدولي بشكل يومي و مكثف إتفاقيات التطبيع بين إسرائيل و بعض الدول العربية, ولكن لم تذكر تلك الوسائل كل أسرار تلك الإتفاقيات!. فتم طمس أو إخفاء الكثير من التفاصيل تحت غطاء “السلام” و “مصالح الشعوب المشتركة” و غيرها!. فهل تلك الإتفاقيات حقاً لمصلحة تلك الدول و شعوبها أم أنها مجرد ترتيبات دبلوماسية لإرضاء مصالح دول من طرف واحد؟ و هل تحمل تلك الإتفاقيات أبعادً أعمق تمس هوية تلك الدول المطبِّعة أو إقتصادها أو هويتها؟
في هذا المقال لن نروِّج لموقف معين, و لكننا سنسلط الضوء على الجوانب المخفية و التي لم تذكر في الإعلام حول بنود تلك الإتفاقيات. و سنحاول الغوص في تفاصيلها و من حيث المبدأ نتائجها المخفية و الغير معلن عنها! كم سنتطرق لردود فعل الشعوب و ماذا تعني تلك التحولات الناتجة عن هذه الإتفاقيات في المستقبل القريب.
1. أهداف التطبيع: ضغوط دولية أم مصالح سياسية و عسكرية؟
نظرة تاريخية: من كامب ديفيد إلى “اتفاقيات أبراهام”
التطبيع لم يكن حدثاً مفاجئاً و لكنه مخطط بدأ تنفيذه منذ عشرات السنين. ومن الخطوات الأولى في تنفيذ هذا المخطط كان “اتفاقية كامب ديفيد عام 1978″، تلك الإتفاقية تم توقيعها بين جمهورية مصر العربية مع دولة إسرائيل برعاية أمريكية. و في ذلك الوقت، شكلت الاتفاقية صدمة للجمهور العربي، حيث كسرت ما كان يُعرف بالتوجه العربي للقتال ضد الاحتلال الإسرائيلي و تحرير الأراضي المحتلة, و كانت الباب أمام جبهة تفاوضية واحدة مع إسرائيل.
وفي عام 1994 جائت “اتفاقية وادي عربة” بين المملكة الأردنية وإسرائيل، لتكرّس وجود علاقات رسمية علنية جديدة، رغم أن التعاون الأمني بين الجانبين كان قائمًا منذ سنوات خلف الكواليس. في كل مرة، كانت الاتفاقيات تُقدَّم على أنها خطوة نحو السلام، لكن الشعوب ظلت تنظر إليها بعين الريبة، خاصة في ظل استمرار الاحتلال وعدم قيام دولة فلسطينية مستقلة.
القفزة الأكبر جاءت مع ما سُمّي بـ “اتفاقيات أبراهام” عام 2020، والتي شملت تطبيع العلاقات بين إسرائيل وكل من الإمارات، البحرين، السودان، والمغرب. هذه الاتفاقيات لم تأتِ بعد حروب أو تفاوض شاق، بل بدا أنها صفقات سياسية سريعة تُدار خلف الأبواب المغلقة، مما أثار الكثير من التساؤلات حول دوافعها الحقيقية.
الدور الأمريكي والخليجي في الدفع نحو التطبيع
لا يمكن فهم اتفاقيات التطبيع الأخيرة دون التطرق إلى الدور الأمريكي. فقد لعبت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب دورًا مركزيًا في تسويق هذه الاتفاقيات كـ”صفقة قرن”، وتقديمها كحل سحري لتطبيع العلاقات الإقليمية دون الحاجة لحل القضية الفلسطينية.
واشنطن قدمت حوافز اقتصادية وعسكرية لبعض الدول العربية مقابل الانخراط في التطبيع، مثل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.
في المقابل، كانت هناك رغبة خليجية واضحة في تعزيز الشراكات الأمنية والتكنولوجية مع إسرائيل، في ظل تصاعد التوتر مع إيران، والتحولات في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. هذه الرغبة، إلى جانب السعي لتحديث الاقتصادات وتوسيع النفوذ الإقليمي، جعلت من التطبيع خيارًا استراتيجيًا للبعض، حتى لو كان على حساب التوافق الشعبي أو التضامن العربي التقليدي مع الفلسطينيين.
ما لم يُعلن عن شروط الاتفاقيات
رغم ما نُشر من وثائق وتصريحات رسمية، إلا أن كثيرًا من بنود هذه الاتفاقيات لا تزال غامضة أو غير معلنة. فالمُعلن هو تبادل السفراء وفتح الأسواق، لكن المسكوت عنه يشمل بنودًا أمنية، وتعاونًا استخباراتيًا، وصفقات سلاح، وترتيبات إقليمية معقدة.
تقارير متعددة تحدثت عن وجود تفاهمات أمنية ثلاثية بين بعض الدول الخليجية، الولايات المتحدة، وإسرائيل، تتعلق بمشاركة قواعد بيانات، تقنيات مراقبة، وتنسيق في ملفات حساسة مثل إيران والبحر الأحمر.
أيضًا، الاستثمارات المتبادلة – خاصة من الجانب الإماراتي – رُوّج لها إعلاميًا على أنها “إيجابية للطرفين”، لكن لا توجد بيانات واضحة حول حجم العوائد الحقيقية، أو من المستفيد الفعلي: الشعوب أم النخب السياسية والاقتصادية؟
كما أن الجانب الفلسطيني، وهو المعني الأساسي بالصراع، لم يكن طرفًا في أي من هذه الاتفاقيات، ما يُثير تساؤلاً مشروعًا: هل طُبِّعت العلاقات على حسابه؟ وهل أصبح الملف الفلسطيني مجرد تفصيل صغير في تفاهمات إقليمية أوسع؟
2. وسائل الإعلام بين الترويج والصمت الانتقائي
كيف غطّت وسائل الإعلام الرسمية الاتفاقيات؟
منذ الإعلان عن “اتفاقيات أبراهام”، لعبت وسائل الإعلام الرسمية في الدول الموقّعة دورًا محوريًا في تجميل صورة التطبيع وتقديمه كإنجاز تاريخي. العناوين كانت واضحة: “سلام من أجل الازدهار”، “فرص اقتصادية هائلة”، “شراكات استراتيجية تصب في مصلحة المواطن”. لكن خلف هذا السرد الدعائي، اختفت الأسئلة العميقة والانتقادات المشروعة.
لم تُتح مساحة حقيقية لنقاش شفاف أو لآراء معارضة داخل الإعلام الرسمي. بل على العكس، جرى إقصاء الأصوات المخالفة، وتقديم المنتقدين على أنهم متشددون أو أعداء للسلام. هذا الخطاب الموجه لم يراعِ حساسية القضية الفلسطينية، ولا تاريخ الشعوب في التضامن معها.
حتى الأزمات التي رافقت مراحل التطبيع – كاقتحامات المسجد الأقصى أو تصعيدات غزة – تم التعامل معها بخجل إعلامي، أو تجاهل متعمّد، مما أثار استياءً واسعًا بين قطاعات من الشارع العربي.
تغييب أصوات المعارضين والشارع
في ظل هذا المناخ الإعلامي المُحكم، تم تهميش الرأي الشعبي. الاستطلاعات المستقلة (مثل استطلاعات المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات) أظهرت أن غالبية العرب يرفضون التطبيع دون حل عادل للقضية الفلسطينية. ومع ذلك، لم تنعكس هذه المواقف في البرامج الحوارية أو التقارير الإخبارية.
في بعض الدول، تم منع التظاهرات المؤيدة لفلسطين، أو التضييق على النشطاء الذين عبّروا عن رفضهم للتطبيع. وقد تعرض بعضهم للمساءلة أو التضييق الرقمي.
حتى داخل العالم الافتراضي، بدأت تظهر رقابة على منشورات منصات التواصل، حيث تم حذف محتوى مناهض للتطبيع، أو تقليل وصوله للمستخدمين. كل ذلك يعكس سياسة إعلامية ممنهجة تقوم على الصمت الانتقائي والترويج الأحادي.
دور الإعلام البديل ووسائل التواصل في كشف المستور
في مقابل الإعلام الرسمي، لعب الإعلام البديل ووسائل التواصل الاجتماعي دورًا حيويًا في كشف الجوانب الخفية للتطبيع. انتشرت مقاطع فيديو، وتحليلات، وتسجيلات تُظهر لقاءات سرية، أو مواقف محرجة لمسؤولين وهم يحاولون تبرير الخطوة أمام جمهورهم.
مبادرات إلكترونية مثل “ضد التطبيع” أو “فلسطين ليست للبيع” حظيت بتفاعل واسع، خاصة بين الشباب. هذه المبادرات لم تكتفِ بالتنديد، بل قدّمت معلومات موثقة وتسريبات عن بعض الاتفاقيات، وأعادت تسليط الضوء على جرائم الاحتلال والانتهاكات المتواصلة.
كما أسهم الصحفيون الاستقصائيون من منصات مثل “العربي الجديد”، “الجزيرة”، و”مدى مصر” في نقل رواية موازية، مبنية على التحقيقات والمصادر الميدانية، بعيدًا عن الدعاية الرسمية.
لكن هذا الإعلام البديل يظل يواجه ضغوطًا ورقابة، ومحاولات تشويه، خاصة عندما يمس مصالح سياسية واقتصادية قائمة.
ملخص
وسائل الإعلام لم تكن مجرد ناقل للخبر في موجة التطبيع، بل كانت شريكًا فاعلًا في تشكيل الرأي العام أو توجيهه. وبين إعلام رسمي يروّج بلا مساءلة، وإعلام بديل يكشف ما لا يُقال، يجد القارئ العربي نفسه أمام روايتين: إحداهما تجمّل الواقع، وأخرى تسعى لكشف حقيقته.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل الإعلام العربي يمارس دوره كمراقب للسلطة؟ أم تحوّل إلى أداة من أدواتها في تبرير خياراتها السياسية؟

3. ردود فعل الشارع العربي: صدمة، انقسام، ولا مبالاة؟
استطلاعات رأي وتفاعلات شعبية في دول الخليج، المغرب، السودان…
رغم أن التطبيع تم بتوقيع حكومات، إلا أن الشعوب العربية كانت الحلقة الأضعف والأكثر تهميشًا في هذا المسار. منذ الإعلان عن “اتفاقيات أبراهام”، ظهرت تفاعلات شعبية متباينة، تراوحت بين الصدمة والرفض الصريح، إلى الانقسام، وصولًا إلى اللامبالاة في بعض الحالات.
في الخليج، خصوصًا في الإمارات والبحرين، لم يُتح للرأي العام فرصة حقيقية للتعبير عن موقفه. التغطية الإعلامية احتفت بالاتفاقيات وقدّمتها كخطوة عقلانية ومستقبلية، بينما غابت استطلاعات الرأي المحلية أو تم تجاهل نتائجها. لكن استطلاعات مستقلة – مثل استطلاع “الباروميتر العربي” – كشفت أن نسبة كبيرة من المواطنين ترفض التطبيع دون حل عادل للفلسطينيين.
في المغرب، كان المشهد أكثر حساسية، خصوصًا مع الخلفية التاريخية القوية لدعم القضية الفلسطينية. تظاهرات خرجت في شوارع الرباط والدار البيضاء رافضة للتطبيع، ووصفت ما حدث بأنه “بيع للقضية مقابل مكاسب سياسية في ملف الصحراء”.
أما في السودان، فقد جاءت الخطوة في ظل ظروف سياسية انتقالية هشّة، ما جعلها تُفسَّر على أنها إملاءات خارجية وليست خيارًا شعبيًا. وبرزت انتقادات واسعة على مواقع التواصل، خاصة أن التطبيع تزامن مع أزمات معيشية عميقة.
كيف رأى الفلسطينيون التطبيع؟
لا شك أن الفلسطينيين كانوا الأكثر تأثرًا نفسيًا وسياسيًا باتفاقيات التطبيع. فرغم أن بعض الدول المطبِّعة أعلنت أن خطوتها تهدف إلى “دعم السلام وخدمة القضية”، إلا أن الفلسطينيين رأوا في ذلك تجاوزًا صريحًا لمبادرة السلام العربية التي اشترطت قيام دولة فلسطينية قبل أي علاقات مع إسرائيل.
قيادات سياسية فلسطينية من مختلف الأطياف – سواء من فتح أو حماس – أدانت الاتفاقيات ووصفتها بـ”طعنة في الظهر”. وتم تنظيم احتجاجات في الضفة الغربية وقطاع غزة للتعبير عن رفض التطبيع، ورفعت شعارات مثل “القدس ليست للبيع” و*”التطبيع خيانة”*.
كما أن الانقسام الفلسطيني الداخلي تعمّق مع شعور متزايد بالعزلة، وفقدان الدعم العربي التقليدي. فالتطبيع أعاد ترتيب أولويات المنطقة، حيث تراجعت القضية الفلسطينية في الخطاب السياسي لصالح ملفات إقليمية أخرى كإيران، وأمن الخليج، والتنمية الاقتصادية.
تصاعد حملات المقاطعة الرقمية والاقتصادية
في مواجهة المسار الرسمي، شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا في حملات المقاطعة الشعبية والرقمية ضد الشركات والفعاليات المرتبطة بالتطبيع. منظمات مثل BDS (حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات) نشطت في ترويج حملات ضد المنتجات الإسرائيلية أو الشركات الداعمة للتطبيع، وحققت بعض النجاحات الرمزية على الأرض.
كما انتشرت وسوم رقمية مثل #ضد_التطبيع، #التطبيع_خيانة، #فلسطين_أولا، حظيت بملايين التفاعلات على تويتر وفيسبوك، خصوصًا خلال أوقات التصعيد في القدس وغزة.
حتى بعض الفنانين والمثقفين العرب رفضوا المشاركة في مهرجانات أو منصات ثقافية تستضيف إسرائيليين، معتبرين أن “التطبيع الثقافي أخطر من التطبيع السياسي”، لأنه يسعى لتطبيع الصورة والوعي لا فقط العلاقات الرسمية.
ملخص
ردود الفعل الشعبية كشفت أن اتفاقيات التطبيع قد تكون نُفذت من أعلى، لكنها لم تُهضَم من الأسفل. الشعوب، رغم الصمت المفروض عليها، لا تزال ترى أن فلسطين ليست مجرد ورقة سياسية، بل قضية مركزية وهوية جامعة.
وإذا كان السياسيون قادرين على توقيع الاتفاقيات، فإن الشارع العربي ما زال يحتفظ بمسافة بينه وبين “السلام المفروض”، ويبحث عن طريقة يعبر فيها عن صوته، ولو عبر وسم إلكتروني أو حملة مقاطعة.
4. الانعكاسات الاقتصادية: وعود لم تتحقق؟
الاستثمار والتبادل التجاري… ما تحقق فعليًا وما بقي حبرًا على ورق
من أبرز المبررات التي طُرحت لتسويق اتفاقيات التطبيع، كانت الفرص الاقتصادية الموعودة. فالإعلام الرسمي روّج لصورة مستقبلية مشرقة: استثمارات مشتركة، تكنولوجيا إسرائيلية متقدمة، وأسواق مفتوحة للطرفين. لكن بعد مرور أكثر من أربع سنوات على توقيع بعض هذه الاتفاقيات، ما تحقق فعليًا لا يرقى إلى حجم الوعود التي أُطلقت.
في الإمارات، جرى الحديث عن مليارات الدولارات من الاستثمارات، أبرزها في مجالات التكنولوجيا الزراعية، والذكاء الاصطناعي، والطاقة. ومع أن بعض الاتفاقيات تم توقيعها، إلا أن التقارير الاقتصادية تشير إلى أن الجزء الأكبر منها لم يُنفذ بالكامل، وبعض المشاريع ما زالت متعثرة أو مؤجلة.
في المغرب والبحرين، العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل بقيت محدودة مقارنة بالإعلام الذي احتفى بها. حجم التبادل التجاري لم يصل إلى المستوى المتوقع، في ظل تحفظات داخلية ومقاومة غير معلنة في بعض المؤسسات والمجالات الحساسة.
أما السودان، فالتطبيع لم يجلب نتائج اقتصادية تُذكر، خاصة بعد تدهور الوضع السياسي والأمني في البلاد، مما جعل الاتفاقيات أشبه بمشروع مؤجل إلى أجل غير مسمى.
هل استفادت الشعوب أم الأنظمة فقط؟
السؤال الجوهري الذي يطرحه كثير من المحللين العرب هو: هل استفادت الشعوب من هذه الاتفاقيات، أم أنها صُمّمت لتخدم مصالح النخب الحاكمة؟
في معظم الحالات، بدا أن التطبيع الاقتصادي كان حكرًا على قطاعات بعينها مرتبطة برجال أعمال مقربين من الحكومات، أو شركات استراتيجية ذات طابع أمني أو تكنولوجي. المشاريع الزراعية، والمجالات الصحية والتعليمية، والتي كان يُفترض أن يستفيد منها المواطن العادي، بقيت هامشية أو محصورة في تجارب تجريبية.
في المقابل، لوحظ ارتفاع في الأسعار، وغياب أي انعكاس ملموس على معيشة المواطن العربي البسيط. لا تحسن في الرواتب، ولا طفرة في فرص العمل، ولا انخفاض في تكلفة الخدمات كما وعدت بعض الحملات الإعلامية.
بل إن بعض المحللين يشيرون إلى أن التطبيع أتاح لإسرائيل الوصول إلى أسواق ومعلومات حساسة، دون أن تقدم مقابلًا متوازنًا على المستوى الشعبي، مما يكرّس الفجوة بين النخبة الحاكمة والشارع.
التطبيع والتنافس الإقليمي على الريادة التكنولوجية
جانب آخر من المسار الاقتصادي للتطبيع هو ما يمكن تسميته بـ “سباق الريادة التكنولوجية”. فبعض الدول العربية، وعلى رأسها الإمارات، رأت في إسرائيل شريكًا استراتيجيًا في مجالات مثل:
-
الذكاء الاصطناعي.
-
الأمن السيبراني.
-
تكنولوجيا المياه والزراعة الذكية.
-
التطوير العسكري والصناعات الدفاعية.
لكن هذا السباق لم يكن دائمًا متكافئًا. فإسرائيل احتفظت بتفوقها التكنولوجي والعلمي، وحرصت على تقديم التكنولوجيا كمورد مدفوع ومشروط، وليس كشراكة نديّة. في حين تسعى بعض الدول العربية إلى اللحاق بهذا الركب، لكنها تعتمد على استيراد التقنية بدل تطويرها محليًا.
كما أن هذا التعاون التكنولوجي أثار مخاوف داخلية، خصوصًا في ما يتعلق ببرامج التجسس، وأنظمة المراقبة الإسرائيلية التي قد تُستخدم داخليًا لقمع المعارضين بدل حماية المواطنين.
ملخص
الوعود الاقتصادية التي رافقت اتفاقيات التطبيع كانت كبيرة، وربما مغرية على الورق. لكن ما تحقق فعليًا لم يكن بمستوى الخطاب الدعائي، بل كشف عن خلل في موازين المصالح، وهيمنة رؤوس أموال محددة، واستبعاد الشعوب من الاستفادة المباشرة.
المفارقة أن الشعوب، التي رُوِّج لها بأن التطبيع سيكون لصالحها، لا تزال تتحمل كلفة اقتصادية واجتماعية مرتفعة، في ظل غياب إصلاح اقتصادي حقيقي، وضعف الشفافية، وانعدام النقاش العام.

5. أثر التطبيع على القضية الفلسطينية
هل أضعف التطبيع موقف الفلسطينيين؟
منذ بداية موجة التطبيع الجديدة، طُرح سؤال حتمي: ماذا بقي من مركزية القضية الفلسطينية في الوعي العربي الرسمي؟ فالاتفاقيات وقّعت دون التنسيق مع السلطة الفلسطينية أو إشراك الفصائل، بل تم تجاهل الرفض الفلسطيني العلني لها، مما شكّل صفعة سياسية ومعنوية للفلسطينيين.
لقد شعر الفلسطينيون – رسميًا وشعبيًا – بأن موقعهم في المعادلة الإقليمية تراجع، وأن قضيتهم لم تعد شرطًا مسبقًا في العلاقات العربية الإسرائيلية. هذا التراجع، وإن لم يكن مفاجئًا بالكامل، جاء بمثابة تحول جذري في الموقف العربي التقليدي الذي كان يربط أي تطبيع بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة وقيام دولة فلسطينية مستقلة.
وبذلك، أصبح الفلسطينيون أمام واقع جديد: لم تعد بعض العواصم العربية تنتظر حلًا نهائيًا، بل تجاوزت الملف الفلسطيني باعتباره “معلّقًا” أو حتى “معرقلًا” لمصالحها.
انقسام الفصائل وتغيير الأولويات الإقليمية
التطبيع لم يأتِ فقط في وقت تعاني فيه القضية الفلسطينية من التراجع الدولي، بل أيضًا من انقسام داخلي بين فتح وحماس، وفشل متكرر في تحقيق المصالحة الوطنية. هذا الانقسام جعل الموقف الفلسطيني أقل تأثيرًا على المستوى الإقليمي والدولي، وأتاح للعديد من الدول أن تتحرك دون الاكتراث كثيرًا بالموقف الفلسطيني.
من ناحية أخرى، الأولويات الإقليمية تغيّرت. فالمخاوف من إيران، والرغبة في تطوير اقتصادات ما بعد النفط، والانخراط في الثورة الصناعية الرابعة، أصبحت بالنسبة لبعض الدول أكثر أهمية من التمسك بالقضية الفلسطينية. وبالتالي، لم يعد يُنظر إلى التطبيع كـ”خيانة”، بل كـ”ضرورة استراتيجية”.
ومع أن بعض الدول أكدت دعمها “اللفظي” لحقوق الفلسطينيين، إلا أن المواقف السياسية الفعلية أصبحت رمادية، والتعامل مع إسرائيل بات أكثر براغماتية وأقل التزامًا بالقيم القومية التقليدية.
هل تحوّلت “القضية” إلى عبء دبلوماسي؟
في ظل هذه التحولات، بدأت بعض الأصوات في الإعلام والسياسة تتعامل مع القضية الفلسطينية بوصفها عبئًا دبلوماسيًا، يُعيق مسارات التطوير والانفتاح الاقتصادي الإقليمي.
يُطرح خطاب جديد في بعض الأوساط العربية يقول: “لقد ضحينا لعقود من أجل فلسطين، لكن القضية لم تُحل، ولا يمكن أن نعلّق مصالحنا إلى الأبد بسبب هذا الملف”. هذا الخطاب – الذي كان يُقال همسًا – أصبح اليوم يُقال علنًا في بعض المنابر، مما يعكس تبدلًا جذريًا في طريقة النظر للقضية.
بل إن بعض الشخصيات الإعلامية الرسمية تجرأت على انتقاد القيادة الفلسطينية أو اتهامها بـ”التقصير”، في محاولة لتبرير التحول العربي نحو التطبيع، وتقديمه على أنه نتيجة لـ”فشل فلسطيني”، لا خيار سياسي من طرف المطبّعين.
ملخص
التطبيع لم يؤذِ الفلسطينيين سياسيًا فقط، بل ضرب عمق التضامن العربي التقليدي معهم. فقد تحولت القضية من أولوية قومية إلى ملف معلق، ومن مبدأ ثابت إلى موضوع “خاضع للحسابات والمصالح”.
ورغم هذا التراجع الرسمي، لا تزال القضية الفلسطينية حيّة في وجدان الشعوب العربية، التي تواصل دعمها عبر التضامن الرقمي، والمقاطعة، ورفض التنازل عن الحقوق الأساسية.
لكن هذا الوجدان الشعبي بحاجة إلى مواقف سياسية واضحة، وإعلام حر، ووحدة فلسطينية حقيقية، لتبقى القضية في مركز الاهتمام، لا على هامش الحسابات.
خاتمة: ما بين التطبيع الرسمي والوعي الشعبي
اتفاقيات التطبيع لم تكن مجرد تحوّل دبلوماسي في العلاقات العربية الإسرائيلية، بل كانت زلزالًا سياسيًا وإعلاميًا واقتصاديًا أعاد تشكيل الكثير من المسلّمات التي طالما تمسكت بها الشعوب العربية لعقود.
فمنذ توقيع تلك الاتفاقيات، برزت فجوة حادة بين الموقف الرسمي والمزاج الشعبي، بين لغة المصالح الاستراتيجية التي تتبناها الأنظمة، وصوت الشارع الذي يشعر بأن فلسطين لا تزال قضيته الأولى، وأن التطبيع – في صيغته الحالية – جاء على حسابها.
وسائل الإعلام لعبت دورًا مزدوجًا: بعض المنابر الرسمية قامت بإنتاج سرديات ترويجية أحادية، بينما كانت الأصوات المستقلة والرقمية تحاول التصدي لهذا الخطاب وكشف ما وراء الأبواب المغلقة. ومع الوقت، ظهر أن الإعلام الرسمي لا ينقل الواقع، بل يصنعه، وفقًا لما تمليه السياسات العليا.
اقتصاديًا، أثبتت التجربة أن الوعود الكبيرة بالتنمية والازدهار بقيت في معظمها حبرًا على ورق، واستفادت منها نخب محدودة، بينما بقيت الشعوب على هامش هذه المشاريع، ترقب النتائج من بعيد دون مشاركة حقيقية في القرار أو العائد.
أما على مستوى القضية الفلسطينية، فقد تراجعت مكانتها في الخطاب العربي الرسمي، وتحولت من أولوية مشتركة إلى بند غير ملزم. لكن رغم هذا التراجع، ما تزال القضية حية في ضمير الشعوب، وتظهر في كل لحظة مواجهة أو عدوان جديد، حيث تعود الشعارات، والرايات، والمواقف لتذكّر الجميع بأن الاحتلال لم ينتهِ، وأن السلام لا يُبنى على التنازل.
ختامًا، ما لم يخبرك به الإعلام عن اتفاقيات التطبيع هو أن الأمر أبعد من مجرد معاهدات سياسية. إنه مشهد مركّب من ضغوط دولية، تحولات إقليمية، توازنات اقتصادية، وصراع سرديات بين الرسمي والشعبي، بين الحاضر والمبدأ، بين الممكن والمرفوض.
ولأن الإعلام قد يخفي الحقيقة، فإن مسؤولية الوعي الشعبي تبقى الخط الدفاعي الأخير في وجه التلاعب بالذاكرة، والتطبيع مع الظلم، والنسيان المتعمّد.